تمويل العمل الخيري بين الواقع والممكن

تُعد الجمعيات الخيرية أحد الأعمدة الأساسية في المجتمعات الحديثة ، لما لها من دور في تخفيف الفقر ، وتعزيز التنمية ، وتقديم الخدمات في مجالات عدة أهمها الصحة والتعليم . لكن نجاحها واستمراريتها مرهونة بقدرتها على تأمين مصادر تمويل مستقرة ومرنة .

وتشكل موارد التمويل العصب الحيوي لاستمرارها ، و تتنوع مصادر هذا التمويل بحسب النطاق الجغرافي والبيئة القانونية والثقافية . ويمكن تصنيفها إلى أربع أنواع رئيسية  :

 

1. التمويل من مؤسسات أممية أو وزارات حكومية

يشمل هذا التمويل الدعم الذي يأتي من منظمات دولية (كمؤسسات تابعة للأمم المتحدة ، اليونيسف ، برنامج الغذاء العالمي ) أو من جهات إقليمية حكومية أو ذات علاقة مثل (  البنك الإسلامي ، قطر الخيرية …. الخ ) أو وطنية ومحلية تقدم منحًا لتنفيذ مشاريع محددة . وتقوم عادة بتمويل كبير نسبيًا و مخصصة لمشاريع واضحة زمنياً وأهدافاً ، وتخضع لمعايير وضوابط صارمة تضمن الشفافية ، ولكن من جهة اخرى غالباً ما تكون مؤقته وغير مستدامة  وتنتهي بانتهاء المشروع  والتعامل معها يتطلب خبرة في إعداد المقترحات والتقارير وآليات المراقبة وأحيانا تكون مشروطة  بسياسات الجهات المانحة .

 

2. التبرعات الجماعية الرقمية (Crowdfunding)

تعتمد على استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لجمع تبرعات صغيرة من عدد كبير من الأفراد ، غالباً عبر منصات مثل GoFundMe ، أو من خلال حملات موجهة على فيسبوك وإنستغرام وباقي تطبيقات التواصل الاجتماعي ويتصف هذا النوع من التمويل بالمرونة والسرعة في جمع الأموال و بالتفاعل المباشر من المتبرعين  ويعتمد على بناء قاعدة داعمين رقمية واسعة وكبيرة و مستمرة مع وجود كيان قانوني للمؤسسة في دول تسمح بالتمويل الجمعي ولكن يبقى هذا النوع من التمويل مرهون بقدرة الجمعية على التسويق الرقمي ، وغالبا ما تكون مرتبط بحوادث ذات بعد عاطفي و مأساوي يحاكي البعد الإنساني لدى الناس أو كوارث وقتية وتحتاج إلى فريق إعلامي وتقني مهم لضمان الاستمرارية وتحقق نجاحًا ملحوظًا في الحالات ذات الأثر الإنساني العميق مثل دعم مرضى السرطان ، وعمليات الأطفال المعقدة ، وغسيل الكلى . و من صفاتها عدم ضمان استمرارية واضحة بالتمويل .

3. تبرعات فردية أو شراكات مع مؤسسات خاصة

يعتمد هذا النوع على التبرعات من أفراد ميسورين أو من شركات خاصة ضمن مسؤوليتها المجتمعية ، سواء مساهمات نقدية ، أو دعم لوجستي ، أو خدمات مجانية .

وعادة ما  تكون لديها مرونة في الاستخدام وتأتي من خلال  تطوير علاقة طويلة الأمد مع المتبرع ، و يوجد فيها تنوّع في أشكال الدعم (نقدي ، عيني ، تقني).

ولكن ايضا تبقى هناك مخاطرة في الاستمرارية والانتظام ، وهذا النوع يعتمد على العلاقات الشخصية والمجتمعية بشكل كبير .

4. الأوقاف (التمويل الوقفي)

هو تخصيص أصل ثابت لصالح الجمعية (أرض ، عقار ، مشروع تجاري…) بحيث يُستخدم ريعه لتمويل نشاطاتها بشكل دائم . وهذا النوع هو أكثرهم استدامة و      يوفر دخلًا ثابتًا على المدى الطويل و يعزز الاستقلالية المالية . ويبقى الأقل تأثراً بالتقلبات السياسية ولكن يحتاج إلى رأس مال تأسيسي كبير و يتطلب إدارة احترافية لادارة الوقف والاستثمار .

بعد الاستعراض  أعلاه فإن الأفضل لاستدامة التمويل ينصح بتنويع مصادر التمويل بالطرق الأربع أعلاه قدر الإمكان وذلك من خلال التوصيات التالية

١- بناء هيكل إداري و رقابي عالي الدقة لإبقاء حجم الثقة عالية بين المتبرع  والجمعية بغض النظر عن نوعية المتبرع

٢- بناء فريق إعلامي ميداني ومركزي يغطي الحدث و ينقله ويخرجه بطريقة احترافية .

٣- بناء فريق قانوني و تقني يغطي التعاملات المالية ونقلها بحيث يتماشى مع القوانين الدولية .

٤- بناء كادر إداري ذو خبرة بالتعامل مع الجهات الدولية .

٥- تأسيس وقف ولو صغير ويكبر بشكل تدريجي لاستدامة التمويل المستقل .

٦- الاستمرار في التواصل مع القطاع الخاص ضمن القوانيين المعمولة بالبلد

ليبقى هذا القطاع رافدا مهماً .

 

وأخيرًا ، فإن العمل غير الربحي يشكل قطاعًا عالميًا ضخمًا تتجاوز قيمته تريليون دولار سنويًا ، ويعتمد بنسبة كبيرة على التمويل الحكومي والدولي ، بينما يظل التمويل الوقفي هو الخيار الأنجع لاستدامة المؤسسات المستقلة ، خاصة في مجالات التعليم والصحة .

وإن كانت هارفرد وأوكسفورد ومايو كلينيك الوقفية شواهد عالمية على هذا النموذج ، فإن جامعة الأزهر ، والزيتونة والقرويين ، ومشفى المنصورية ، والحسين للسرطان ، هي شواهد عربية أصيلة على ذات الروح .

وقد أثبت التاريخ أن الجمع بين العمل المدني النشط والتمويل الوقفي يُنتج مؤسسات راسخة الأثر . فعلى سبيل المثال ، جامعة القرويين التي أسستها امرأة من فاس ، ومشفى المنصورية الذي استمر في خدمة الفقراء لقرون ، هما دليلان على قدرة المجتمعات على تحويل الخير الفردي إلى أثر جماعي دائم ، حين يُدار الوقف بحوكمة وحكمة .

وبالتأكيد حين تدرك الجمعيات الخيرية   تنوّع مصادرها وتمتلك رؤية تنظيمية حديثة ، تصبح فاعلًا اقتصاديًا ومجتمعيًا لا يُستهان به .

 والله الموفق

زياد ريس

Next
Next

فكرة الفرنشايز في العمل الإنساني